بين عامٍ يمضي وعامٍ يُقبل

حين نصل إلى نهاية عامٍ ونقف على عتبة عامٍ جديد، لا يكون الانتقال مجرّد تبدّل أرقام أو تواريخ، بل هو انتقال شعوري وفكري عميق، يحمل معه مراجعة صادقة لما مضى، واستعدادًا واعيًا لما هو قادم. في هذه اللحظات، نحتاج إلى أن نُصغي لأنفسنا بهدوء، وأن نُقيّم العام المنصرم بعين العدل لا القسوة، وبقلب الشكر لا جلد الذات.
فالرضا عن العام الذي مضى لا يعني أن كل شيء كان مثاليًا، بل يعني أننا أدّينا ما استطعنا بحدود طاقتنا، وتعلّمنا مما تعثّر وصبرنا حين ضاقت السبل. هو رضا يُعيد ترتيب الداخل، ويمنح النفس سلامًا يُمكّنها من الاستمرار دون إنهاك. فكم من محاولات لم تُثمر فورًا، لكنها كانت بذرة نضجٍ ستؤتي أكلها في وقتها المناسب.
وقد أرشدنا الله سبحانه إلى قيمة العمل والاجتهاد حين قال: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾، فليست النتائج وحدها مقياس النجاح، بل صدق السعي، واستقامة القصد، وبذل الجهد فيما يرضي الله وينفع الناس.
عامٌ مضى حمل بين أيامه مسؤوليات، وضغوطًا، وقرارات لم تكن سهلة، ومع ذلك لم يخلُ من لحظات نور، ولا من مواقف شكّلت وعينا، وأشخاص تركوا فينا أثرًا، وأحداث غيّرت مسار تفكيرنا. ومن الحكمة أن نغلق هذه الصفحة بامتنانٍ صادق، وأن نُسلّم بأن ما لم يتحقّق لم يكن خارج حكمة الله، وأن التأخير أحيانًا لونٌ آخر من ألوان العطاء.
وحين نستقبل عامًا جديدًا، فإننا لا نستقبله باندفاع عاطفي مؤقت، بل بتفاؤلٍ متزن، يقوم على وضوح الرؤية، وحسن التخطيط، ومعرفة الأولويات. فالبدايات القوية لا تقوم على الحماس وحده، بل على الاستمرار، كما قال النبي ﷺ:
«أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
فخطوة صغيرة ثابتة خير من اندفاع كبير سرعان ما يخبو.
إن التفاؤل الحقيقي لا يعني تجاهل التحديات، بل الثقة بالقدرة على التعامل معها بنضجٍ أكبر، وقلبٍ أكثر طمأنينة، وتجربةٍ أعمق. هو تفاؤل يُعزَّز بالإيمان، ويُغذّى بالعمل، ويقوده وعيٌ يدرك أن كل مرحلة في الحياة لها رسالتها الخاصة.
وقد عبّر ابن القيم رحمه الله عن هذه الحقيقة بقوله: «مَن صحّت بدايته أشرقت نهايته»، فحين نُحسن استقبال البدايات بنيّة صادقة وخطة واضحة، فإن النهايات تأتي بإذن الله أكثر إشراقًا مما نتوقّع.
فلنودّع عامًا مضى وقد صفّينا قلوبنا، وراجعنا نياتنا، وتعلّمنا من تجاربنا، ولنستقبل عامًا جديدًا بروحٍ هادئة، وطموحٍ واعٍ، وثقةٍ عميقة بأن الله لا يضيّع سعيًا، ولا يُخيّب قلبًا أحسن الظن به. فبهذا الرضا، وبهذا التفاؤل، تُصنع الأعوام المليئة بالأثر والبركة.
اكتشاف المزيد من عين الإخبارية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.



