غبتَ عن أعينهم حيًّا .. فبكوك ميتًا

من أكثر المشاهد إيلامًا في حياة الإنسان أن يرى أقرب الناس إليه لا يفتكرونه إلا حين يرحل. يمضي العمر، وتبهت العلاقات، وتتلاشى صلة الرحم في زحام الدنيا، حتى لا يتذكّرك أحد إلا عندما يُذاع خبر وفاتك، فيتهافت الجميع بالعزاء، كأن الموت وحده هو الذي يذكّرهم بأنك كنت حيًّا بينهم ذات يوم.
في زمنٍ مضى، كانت صلة الرحم عنوانًا للفخر، وكانت زيارة القريب عبادةً قبل أن تكون عادة – كان الناس يزورون بعضهم بلا موعد، ويتفقدون المريض قبل أن يسأل عنهم، ويواسون بعضهم في الفقد قبل أن يُدعى أحدهم إليه ، أما اليوم، فقد تراجعت هذه الروح، وصارت القرابة مجرد اسمٍ في الهاتف، أو متابعة صامتة على وسائل التواصل، أو لقاءٍ عابر في مناسبة عامة.
تحوّلت المشاعر إلى مجاملات، والعلاقات إلى واجبات اجتماعية باهتة لا حرارة فيها.
نرى كثيرين ينسحبون بصمت، ليس كرهًا ولا قطيعة، بل انشغالًا بأنفسهم – كلٌّ يغرق في مسؤولياته، فيعمل ليلاً ونهارًا ويعيش سباقًا لا ينتهي نحو الاستقرار، فينسى السؤال، ويؤجّل الزيارة، حتى يأتي الموت فيعيد ترتيب الذاكرة.
عندها فقط يتذكّر الجميع الاسم، يتألمون للحظة، يذرفون دموع الندم، ثم تعود الحياة كما كانت، وكأن الفقد مجرد محطة عابرة في سباق النسيان.
القسوة ليست دائمًا في النسيان، بل في التأجيل.
الأقارب لا ينسونك تمامًا، لكنهم يؤجلون السؤال حتى ” يتفرغوا ” ، والزيارة حتى “تهدأ الظروف”، والوصال حتى “يتحسن الوقت”.
لكن الحياة لا تنتظر أحدًا، والموت لا يُمهل من يخطط للغد – وحين يأتي النبأ، يصحو ضمير القرابة فجأة، ويبدأ سباق الحضور إلى العزاء، وكأنهم يسابقون الندم المتأخر.
كم من قريبٍ غاب عنك في مرضك، ثم بكى بحرقة عند قبرك !
وكم من صديقٍ لم يتصل يومًا ليطمئن، ثم نشر كلمات الرثاء بعد رحيلك وكأنه عاش معك الألم كله !
الموت لا يصنع المحبة، بل يكشف حقيقتها.
في هذا الزمان ، أصبحت العلاقات تُقاس بالمنفعة لا بالمحبة.
فإن كنت سبب سرور أو فائدة، اقتربوا منك، وإن احتجت أو ضعفت، ابتعدوا كي لا يثقلهم وجعك.
تغيّرت النفوس حتى صارت المصلحة تُغطي على المروءة، وصار القلب لا يتحمّل رؤية الضعف، فيختار الغياب حفاظًا على راحته النفسية.
لم تعد القرابة كما كانت، لأن الإنسانية تراجعت خلف جدار الأنانية ، والرحم انكمشت في دوائر صغيرة لا تتجاوز حدود البيت الواحد.
حين تموت، لا يتغير أحد، بل يُكشف كل أحد على حقيقته – تظهر من كان يذكرك في دعائه، ومن كان يراك مجرد رقم في شجرة العائلة.
تسقط الأقنعة، فيسكت المتكلفون، وتبقى فقط القلوب التي كانت قريبة في صمتها، صادقة في حضورها، وفية دون انتظار مناسبة.
الموت لا يأتي ليجمع الناس، بل ليُميز من جمعهم الحب ممن جمعتهم العادة.
ختاماً : لا تحزن إن لم يفتكرك الأقرباء إلا عند وفاتك، فربك لا ينسى. القلوب الصادقة لا تنتظر جنازة لتتذكّرك، ولا نعياً لتذكُر اسمك. هي تذكرك في السجود، في الدعاء، وفي لحظات الصمت التي لا يراها أحد.
فمن لم يسأل عنك في حياتك، لن تنفعك دموعه بعد رحيلك، ومن لم يقف معك في مرضك، لن يُجبر كسرك بكلمة رثاء.
غبتَ عن أعينهم حيًّا، فبكوك ميتًا…
لكن الله لا يغيب، ولا ينسى من سكنت ذكراه في قلوبٍ صادقة، مهما قلّ عددها.
اكتشاف المزيد من عين الإخبارية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.


