اللحظة التي تختبر الوعي

ليست كلّ اللحظات متشابهة ..
فهناك لحظات تمرّ بنا كما تمرّ الريح،
وأخرى تقف أمامنا طويلًا… لا لتُربكنا، بل لتكشفنا.

اللحظة التي تختبر الوعي لا تأتي صاخبة ..
ولا تحتاج إلى حدثٍ استثنائي كي تفرض حضورها ..
يكفي أن تُسقِط حجرًا صغيرًا في بركة القناعات
حتى نرى دوائر الشكّ تتّسع،
ونكتشف كم كان السكونُ سابقًا مجرّد وهم.

في هذه اللحظة، لا يُقاس الإنسان بما يقول،
بل بما يؤجّل قوله.
بقدرته على التمهّل قبل الانحياز،
وعلى السماح لشيءٍ في داخله أن يتصدّع
دون أن ينهار.

الوعي هنا لا يكون في كثرة المعرفة ..
فالمعلومات قد تملأ العقول
وتترك فراغًا في البصيرة.
الوعي أن ترى المشهد كاملًا
وأنت تدرك أن رؤيتك — مهما اتّسعت —
ستظل ناقصة ..
وأن اكتمالها لا يتحقق بالصوت العالي
بل بالإنصات العميق.

هي لحظة فاصلة
بين من يبحث عن موقفٍ سريع،
ومن يبحث عن معنى أبقى.
بين من يريد أن يكون “مع”،
ومن يختار أن يكون “واعياً”.

في هذه اللحظة تتعرّى الأفكار من زينتها،
وتسقط الأقنعة التي لبسناها طويلًا
بدعوى القناعة.
نكتشف أن بعض آرائنا
لم تكن سوى خوفٍ متنكر،
وأن بعض صلابتنا
كانت قلقًا يرفض المراجعة.

الوعي الحقيقي لا يدّعي الطهارة،
ولا يتباهى بالحياد،
بل يعترف بقابليته للخطأ،
ويعلم أن المراجعة ليست تراجعًا
بل تقدّم داخلي شجاع.
فالتراجع عن فكرةٍ خاطئة
أقرب إلى النضج
من التقدّم بثقةٍ في طريقٍ مضلل.

وهنا، بالضبط، يحدث التحوّل الصامت:
حين نخفّف قسوة اليقين
ونستبدلها بعمق السؤال،
وحين نكفّ عن إصدار الأحكام
لنبدأ بفهم الدوافع،
وحين ندرك أن أقسى المعارك
ليست مع الآخرين…
بل مع النسخة القديمة من وعينا.

اللحظة التي تختبر الوعي
لا تمنحنا وسامًا،
ولا تضعنا في صفٍّ بعينه،
لكنها تترك أثرًا لا يُمحى:
إمّا أن نخرج منها أخفّ فهمًا
وأعمق إنسانية،
أو نظلّ أسرى يقينٍ صاخب
لم يُنقذنا من أنفسنا.

وهكذا…
ليست قيمة الوعي في أن نعرف كل شيء،
بل في أن نعرف متى نتوقّف .
متى نشكّ،
ومتى نملك الشجاعة
لإعادة ترتيب الداخل
قبل أن نرفع الصوت في الخارج.

فالوعي…
ليس ما نرفعه شعارًا،
بل ما نحتمله صمتًا .


اكتشاف المزيد من عين الإخبارية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى