خُلُص التراجمة نبض البداية ومرفأ الذكريات

على بُعد نحو 110 كيلومترات من المدينة المنورة، تقع قريتي، مسقط رأسي ومهد ذكرياتي الأولى. قد تفصلني عنها المسافات، لكنها تسكن قلبي قربًا وحنينًا لا يفتر، ولا تغيب عن خاطري مهما امتدت الأيام وتعددت المدن.

 تتميّز قريتي بطقسها المتفرد؛ إذ تنعم ببرودة لافتة في فصل الصيف، تتفوق بها على القرى المجاورة بنحو 5 إلى 7 درجات مئوية، وكأنها اختارت أن تبقى في عالمها الخاص، متمسكة بنقائها وصفائها كما عهدناها في الزمن الجميل.

 وفي طريقي إليها، أمرّ بقرى تتباين في حجمها، لكنها تتشابه في روحها بعضها بارز ظاهر  وبعضها لا يُرى إلا من لوحة طريق تشير إليه ومع هذا التنوع، يظل الطابع البسيط والجوهر الأصيل رابطًا مشتركًا يعيد إلى القلب عبق الطفولة وذكريات البدايات.

 ورغم كثرة المساجد المنتشرة في أرجاء القرية، يظل المسجد الجامع هو القلب النابض للمكان ليس مجرّد مصلّى، بل ساحة لقاء، يجتمع فيه الأهالي، كبارًا وصغارًا، كل يوم جمعة لأداء الصلاة وتبادل الأحاديث ببساطته ودفئه، ظل شاهدًا حيًّا على تلاحم الناس وتواصلهم، ورمزًا صادقًا لقيم الاجتماع وروح الجماعة.

 أما أهلها من كبار السن، فيحملون لها محبة ضاربة في الجذور، محبة لا تنطفئ بل تزداد عمقًا مع مرور الزمن منهم من يزورها نهاية كل أسبوع، ومنهم من لا تسنح له الفرصة إلا في الأعياد والمناسبات – تأخذنا مشاغل الحياة، لكنها لا تنجح يومًا في انتزاع قريتنا من قلوبنا.

 وحين تحلّ المناسبات، تنبض القرية بالحياة مجددًا تعجّ بالوجوه العائدة والقلوب المشتاقة، وتتحول إلى خلية نحل مفعمة بالدفء تملأ أرجاءها ضحكات اللقاء وأحاديث الشوق وبهجة اللمة وكأن الزمن يعود أدراجه، والوجوه كما عرفناها، باسمة محبة، يملؤها الحنين.

 خاتمة 

لكلٍّ منّا قرية، فيها تفتّحت أعيننا على الحياة، وتعلّمنا فيها أبجدية الانتماء نحبها بصدق ونتشبث بها كما يتشبث الجذر بتربته الأولى –  فمَن أحبّ قريته بصدق، أحبّ الإنسان حيثما كان، وفتح قلبه للآخرين، يُعطي كما يأخذ، ويزرع المودّة كما يحصدها.

 لكن لا ينبغي أن يطغى حبّ القرية على ما هو أعمق وأشمل؛ فحبّ الوطن هو الأصل  يسبق، يعلو، ويحتوي. فهو الذي يحتضن القرية، ويمنحها الأمان والمعنى.

 وهكذا ستظل خُلُص (خُلُص التراجمة) كما عهدناها دومًا نبض البداية، ومرفأ الذكريات ومهبط القلب كلما أثقله الحنين.

 للتواصل مع الكاتب jttj110@gmailcom

 


اكتشاف المزيد من عين الإخبارية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى