على عتبة الموت وقف الوفاء منتصرًا

في تراث العرب حكاياتٌ تقف شاهدة على عظمة القيم التي شكّلت وجدان الأمة، ومن بين هذه القيم، ينهض الوفاء كالراية في مهبّ العواصف، لا ينكسر ولا يخون. إنه الخيط الرفيع الذي يصل القلب بالقلب، والعهد بالعهد  ويمنح المواقف نبضًا لا يُنسى.

ولعلّ من أعذب ما حفظته كتب التراث في هذا الباب، قصة حاتم الطائي، التي تجلّى فيها الوفاء لا في القول فقط، بل في الموقف الذي تتزلزل عنده النفوس وتنكشف فيه المعادن.

* حاتم الطائي… رجل أوفى مما ظنه خصمه.

في «مكارم الأخلاق» لابن أبي الدنيا (ص: 63)، يُروى أن حاتم خرج في سفر فتعرض له أحد قطاع الطرق  فطلب منه حاتم أن يمهله أيامًا يعود فيها إلى أهله يوصيهم ويقضي ديونه، ثم يرجع إليه طوعًا. فقال له اللص: “ومن يضمن أنك ستعود؟”، فأجابه حاتم بثقة: “ضميني وفائي”، فلم يكن له من الضمانات غير شرف الكلمة.

عاد حاتم فعلًا، كما ورد في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (ج14، ص104)، بعد أن أنهى ما عليه، وعاد إلى اللص الذي ذُهل من الموقف، فقال له: “ما رأيت أوفى منك، فاذهب فأنت في حلّ”. لقد واجه حاتم الموت، لا بسلاح، بل بوفائه، فعفا عنه عدوه الذي انقلب مُعجبًا بأخلاقه.

“عاد ليلقى مصيره، لا لأنه مضطر… بل لأنه أوفى مما ظنه خصمه.”

* الوفاء… شرف لا يُشترى

هذه القصة ليست روايةً للتسلية، بل نموذجٌ أخلاقي حيّ. لقد علّمنا حاتم أن الوفاء ليس حكرًا على أصحاب النفوذ، بل هو فعل النبلاء، مهما كانت ظروفهم. فما معنى أن تعد ولا تفي؟ وأي احترام يحصده من يبيع كلمته عند أول منعطف؟

قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]

* دعوة من قلب التراث .

إن استحضار مثل هذه القصص ليس تمجيدًا للماضي بقدر ما هو دعوة للحاضر أن يتزيّن بمكارم الأخلاق. في زمن تتسابق فيه المصالح وتغيب فيه الثقة، نحن أحوج ما نكون لغرس هذا المعنى في الجيل، وتعزيزه في كل ميثاق، وكل علاقة إنسانية. فالوفاء لا يحتاج إلى قوانين، يكفي أن يكون في القلب عهد، وفي النفس شرف.

فهل نملك نحن اليوم شجاعة الوفاء، ولو بكلمة، ولو في موقف لا يراه أحد إلا الله ؟


اكتشاف المزيد من عين الإخبارية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى