حبشي .. حين يصبح العطاء حياة

في بارق، حيث تتقدّم الذاكرة بخطوات أبطأ من الناس، يمرّ الأستاذ حبشي البارقي كما لو أنّه فصل لا يغلق. لا يظهر كثيرًا في الضوء، لكنه يترك أثره في الظلال: أسماء تحفظ، أبواب تفتح، وقلوب تعرف الطريق إليه دون موعد.
كان معلم أحياء، نعم، لكن الأحياء عنده لم تكن درسًا في كتاب، بل معنى يمارس؛ خلايا تتآلف، أنسجة تتعاون، وجسد لا يعيش إلا بتكافل أعضائه.
كان يقف أمام السبورة فيعلّم دورة الحياة، ثم يخرج إلى الشارع ليكمل الشرح عمليا : كيف تغذّي الكائنات بعضها بعضا، وكيف يصلح العطاء ما تكسّره الأيام.
في عينيه هدوء القائد الكشفي، وفي خطوته خفة من يعرف الخرائط كلها، ليس خرائط المكان فحسب، بل خرائط النفوس. يسهّل، يصلح، ويقرّب المسافات، كأنه أخطبوط علاقات لا يمسك الأشياء، بل يحتضنها.
وحين يقال إن السخاء يستر العيوب، يبدو حبشي شاهدا على حكمة أقدم من القول. فالسخاء عنده ليس فضيلة عارضة، بل نظام حياة، مثل جهاز دوري يضخ المعنى في أطراف المجتمع. بنى مساجد، دعم جمعيات، ومضى متطوعا لا يطلب تعريفا. كان يرى في التطوع فطرة تستعاد، وفي الانتماء للإنسانية رحما أوسع من كل الألقاب.
اليوم، وهو يودّع التعليم، لا يودّع الرسالة. يبدأ رحلة شغف جديدة، كعالم أحياء يعرف أن الحياة لا تنتهي بالتقاعد، بل تغيّر شكلها. سيعيد توزيع وقته كما تعيد الطبيعة توزيع مواردها، وسيواصل خدمة الناس كما لو أنها استمرار طبيعي للدرس الأول.
في بارق، سيظل حبشي حاضرا، لا بوصفه اسما في سجل، بل كذاكرة تعمل، وكفكرة تمشي بين الناس، تعلمهم أن العطاء ليس فعلا إضافيا على الحياة، بل هو الحياة حين تفهم نفسها.
كتبه / عبدالله سليمان البارقي
ديسمبر ٢٠٢٥
اكتشاف المزيد من عين الإخبارية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.




