حين يتكلّم العقل .. يصمت الغضب

كلما ازدادت رجاحة عقل الإنسان، بدا أكثر ميلًا إلى الصمت الحكيم، والتغافل الواعي، والتسامح العميق. لا لأن الحياة باتت أيسر، بل لأن بصيرته أصبحت أوسع، ونفسه أغنى وأكرم من أن تُستنزف عند كل زلّة أو هفوة. فالعقلاء لا يُجهدون أرواحهم في تعقّب الأخطاء، بل يُربّون أنفسهم على التغاضي، ويُرّبون من حولهم على حسن الظن، لأنهم أدركوا أن الكمال لله وحده، وأن السمو الأخلاقي ليس في ردّ الإساءة، بل في فنّ تجاوزها.
إن العاقل الراشد لا ينتصر لنفسه في كل موقف، لأنه يعلم أن هناك انتصارات أعظم من كسب الجدل؛ انتصارات تحفظ الكرامات، وتُرمّم العلاقات، وتُبقي على مساحة من الودّ لا تهدمها لحظة انفعال. وهذا هو الفرق بين من يُدير الأمور بعاطفته، ومن يقودها بعقله.
لقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه السجايا الرفيعة، حين قال: “ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” [متفق عليه].
وهذا الحديث ليس مجرد توجيه سلوكي، بل هو تأسيس لفلسفة إنسانية كاملة في إدارة الذات والانفعالات، حيث تكون السيطرة على النفس أعظم من السيطرة على الآخرين.
وليس التغافل جهلًا كما يظنه البعض، بل هو عين الحكمة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: تسعة أعشار العافية في التغافل . فأن تغمض عينيك عن خطأ غير مقصود، أو زلة عابرة، لا يعني أنك لم ترها، بل يعني أنك رأيتها بعين القلب، فغلبت العذر على المؤاخذة.
هؤلاء الكبار في وعيهم، يتعاملون مع العلاقات كبساتين، يحرصون على سقياها بماء السماحة، ويجتنبون إفسادها برياح العتاب المتكرر. يعرفون أن مرونة النفس ليست خنوعًا، بل خُلقٌ كريم لا يصدر إلا من أصحاب النفوس العامرة بالحكمة.
هم الذين إذا أوذوا… غفروا، وإذا جُرِحوا… ستروا، وإذا انتصروا… لم يشهروا، مستحضرين قول الله تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134] فالتسامح عندهم ليس ضعفًا، بل عبادة، والغفران ليس ترفًا، بل قوة تحرّر القلب من ثقل الكراهية.
وكم نحن بحاجة في هذا العصر السريع والغاضب، إلى أولئك الذين إذا احتدّت الأصوات… خفّضوها، وإذا اشتدّت القلوب… ليّنوها، وإذا اختنق الجوّ… فتحوا نوافذ الحلم والتفهّم والتجاوز.
إنهم لا يتعالون على الناس، بل يتعالون على صغائر الأمور. يعيشون بصفاء، ويتركون في النفوس أثرًا لا يُنسى، لأنهم يُمارسون أجمل أنواع الكِرم: كرم الخُلق، وكرم التغافل، وكرم التسامح.
هؤلاء هم الكبار حقًا… كلما كبُرت عقولهم ، صغرت عندهم أخطاء الآخرين .
اكتشاف المزيد من عين الإخبارية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.