الرقابة والإبداع أيهما أولى ؟

لم يعد الموظف في بيئات العمل التعليمية اليوم منشغلًا برسالته الجوهرية بقدر انشغاله بالأنظمة الإدارية التي تلاحقه في كل دقيقة حضور وانصراف. فالمسؤولون يراقبون الساعات بدقة شديدة، وكأنها المعيار الأوحد للإنتاجية، بينما تضيع على الموظف –وخاصة المعلم– عشرات الدقائق في إجراءات روتينية لا تترك أثرًا حقيقيًا في جودة التعليم.

إن المفارقة هنا لافتة للنظر؛ فالمنظمات التي تدقق في دقيقة تأخر الموظف قد لا تُبالي بساعات تضيع منه في الانتظار، أو تعبئة النماذج، أو حضور اجتماعات لا تضيف قيمة ، وبينما يُنظر إلى وقته كأداة للرقابة ، يُغفل أن وقته في الحقيقة هو رأس ماله الأثمن.

معضلة إهدار الوقت – الدراسات العالمية تُبرز هذه المعضلة بوضوح:

في هولندا، يقضي معلمو المرحلة الابتدائية ما يقارب 20% من وقتهم الأسبوعي في مهام إدارية لا علاقة لها بالتدريس المباشر.

وفي الولايات المتحدة، صرّح 84% من المعلمين أن وقت الدوام الرسمي لا يكفي لإنجاز مهامهم الأساسية كالتحضير والتصحيح والتواصل مع أولياء الأمور.

أما متوسط ساعات عمل المعلم فيبلغ نحو 54 ساعة أسبوعيًا، لكن أقل من نصفها يذهب فعلًا للتعليم داخل الفصل.
هذه الأرقام تكشف أن الموظف لا يُثقل فقط بمتابعة الحضور، بل يُستنزف في أعمال جانبية تضعف حافزه وتقيّد طاقاته.
تجربة غوغل: حين يصبح الوقت أداة للإبداع

في المقابل، تقدم شركة غوغل نموذجًا مختلفًا تمامًا لإدارة الوقت. لم تركّز على مراقبة حضور الموظف بدقائق وثوانٍ، بل منحتهم حرية استثمار وقتهم في الإبداع وأطلقت الشركة ما يُعرف بـ قاعدة 20%: يخصص الموظف يومًا واحدًا في الأسبوع للعمل على فكرة يختارها بنفسه.

النتيجة؟ ابتكارات غيرت العالم : بريد Gmail انطلق من فكرة موظف استثمر جزءًا من وقته الحر.

خدمة Google News ظهرت من تجربة شخصية لمهندس داخل الشركة.

الدرس واضح: دقائق الموظف، إذا وُجهت نحو الإبداع، قد تصنع إنجازات تتجاوز كل ساعات المراقبة والقيود.

الدروس لمؤسساتنا التعليمية

لكي نحقق تعليمًا أكثر جودة وإبداعًا، علينا أن نعيد صياغة فلسفة إدارة الوقت: الثقة بالمعلم قبل مراقبته ؛ فالمعلم لا يقاس ببصمة دخول، بل بما يتركه من أثر في طلابه.

التركيز على جودة المخرجات بدلًا من تضخيم الإجراءات.

تقليص الأعباء الإدارية غير الضرورية، وتبسيط الأنظمة بما يخدم الهدف التعليمي.

منح مساحات للإبداع، ولو بضع ساعات في الأسبوع، ليبتكر المعلم أساليب تدريس، أو يطوّر مواد تعليمية، أو يبتكر حلولًا لتحديات صفه.

إن حرص المؤسسات على دقائق حضور الموظف لا يوازي قيمتها الحقيقية ما لم تُترجم إلى جودة وإبداع. دقيقة إبداع واحدة من معلم واعٍ قد تغيّر مسار طالب، بينما آلاف الدقائق في الروتين لا تصنع فارقًا.

الموظف ليس آلة للانصراف والتوثيق، بل إنسان يحمل رسالة – وإذا أدركت المؤسسات أن وقت الموظف هو أثمن مواردها  فستجني تعليمًا متجددًا وإنتاجية حقيقية تتفوق على أي نظام مراقبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى