القيم في زمن الشهرة

في زمنٍ تتسابق فيه الأضواء، وتتعالى فيه الأصوات، باتت الشهرةُ هدفًا يتقدّم على القيمة، والصورةُ تتغلّب على الجوهر. أصبح المشهد الاجتماعي يعيش حالةً من “النجومية السريعة”، حيث يكفي مقطع عابر أو تصرف مثير لينقل صاحبه من الهامش إلى دائرة الضوء، ولو على حساب المبدأ والحياء.
بين المجد الحقيقي والزائف
لم تعد الشهرة اليوم نتاجَ علمٍ أو إنجازٍ أو تضحية، بل أصبحت أحيانًا نتيجة “تحدٍ سخيف” أو “جدل مصطنع” يُروّج له عبر المنصات الرقمية. وهنا يكمن الخطر؛ إذ تختلط المعايير بين من يصنع القيمة ومن يصنع الضوضاء.
لقد تغيّر ميزان الشهرة من “ماذا قدّمت؟” إلى “كم متابعًا لديك؟”، وغاب السؤال الأهم: “هل ما تقدّمه يضيف أم يضيع؟”.
القيم بين الحضور والتلاشي
القيم ليست شعاراتٍ تُقال، بل سلوكٌ يُمارَس، وهي ما يمنح الشهرة معناها الإنساني وشرعيتها الأخلاقية. فالشهرة بلا قيم كالسفينة بلا بوصلة، تُبحر في كل اتجاه، لكنها لا تصل إلى ميناء.
ولئن كان الإعلام الجديد قد منح الصوت للجميع، فإن المسؤولية اليوم مضاعفة؛ لأن الكلمة الواحدة قد تُصلح مجتمعًا أو تُشعل فتنة.
القدوة المفقودة
في مجتمعنا السعودي، حيث تتقاطع الأصالة مع التحول الكبير في الرؤية والوعي، يبرز سؤالٌ جوهري: من يصنع القدوة اليوم؟ هل هو العالم والمعلّم والمصلح؟ أم هو المشهور الذي يجيد تسويق نفسه؟
القدوة ليست من يملك الكاميرا، بل من يملك الأثر. ولا يُقاس الأثر بعدد المشاهدات، بل بعمق التغيير الذي يُحدثه في النفوس.
وكم من مؤثرٍ سعوديٍّ جعل من محتواه وسيلة لبناء الوعي والذوق، وآخرون جعلوه سلعةً للتسلية الرخيصة. فالأول يرفع الذوق العام، والثاني يضعف القيم في صمتٍ مؤلم.
نحو وعيٍ جديد
من هنا تأتي الحاجة الملحّة إلى “وعيٍ قيميّ” يعيد التوازن بين الشهرة والضمير، بين التأثير والمسؤولية. نحن بحاجة إلى إعلامٍ يُكرّم الموهبة لا الجدل، ويرفع من شأن الإنجاز لا التفاهة، ويعيد إلى الأجيال احترام الكلمة والعقل والفضيلة.
ففي مجتمع القيم، تبقى الشهرة وسيلة لا غاية، وميدانًا للبذل لا للغرور.
الخاتمة
إن زمن الشهرة السريعة يضعنا أمام امتحانٍ عسيرٍ للقيم، فإما أن نكون أتباعًا للضوء، أو صُنّاعًا للنور. والفرق بينهما هو “النية والوعي”؛ فالأول يبحث عن التصفيق، والثاني يبحث عن الأثر.
فلنحمل مسؤولية الصورة قبل أن نبحث عن الإعجاب، فالأجيال الصغيرة تتعلم من الأعين لا من الأقوال – وحين تبقى القيم حيّة في وجداننا، تبقى السعودية منارة توازن بين الأصالة والانفتاح.
“القيمة ” التي تبقى بعد انطفاء الأضواء… هي وحدها التي تستحق أن تُسمّى شهرة.
اكتشاف المزيد من عين الإخبارية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.